تـطوير فكر تربوي عربي في رعاية وتنمية الطّفولة المبكرة
نبيلة اسبانيولي
اخصائية نفسية
مديرة مركز الطفولة
مقدّمة
نشهد في السّنوات الأخيرة تطوّرًا في مجال الطّفولة المبكرة، فقد ازداد الاهتمام بالطّفل والطّفولة بشكل عامّ، وزاد الوعي لأهمّيّة السّنوات الأولى من عمر الطّفل والطّفلة. وعلى الرّغم من هذا التّحسّن، لا زال أطفالنايعانون من نقص صارخ في الخدمات والإمكانيّات المقدّمة لهم ولهنّ. وما زالت المربّيات بحاجة ماسّة إلى برامج عمل وبرامج داعمة باللّغة العربيّة، وما زال الأهالي يواجهون تحدّيات جمّة. فتنمية ورعاية الطّفولة المبكرة خاصة في السّنوات الأولى من عمر الطّفل/ة أساسيّة في بلورة شخصيّة الفرد. ونحن نرى أنّ موضوع تنمية ورعاية الطّفولة المبكرة[1] يولى اهتمامًا كبيرًا في العالم، إذ أظهرت الأبحاث في السنوات الأخيرة نتائج جديدةحول تطوّر الدماغ والتي تُبيِّن أنّ العلاقات ما بين الوصلات العصبية في الدماغ، تتطور في الأشهر الثمانيةعشر الأولى من حياة الطفل. وأن هنالك عوامل أساسيةقد تؤثِّر
على حياته، أهمّها: التغذية والبيئة الماديةوالبشرية. أي أن تعاملنا مع الأطفال، وما نقدِّمه لهم من إمكانيات، كله يؤثِّر
على تطوّرهم. وهذا أمرٌ يعيه كل مهتمبالطفولة. فتربية الطّفل هي تفاعل ما بين الطّفل و بيئته، بما في ذلك وبشكل خاصّ، النّاس الآخرين، الموادّ المتوفّرة في البيئة والمعرفة. تفاعل الطّفل مع الأشخاص (كبارًا وصغارًا) يحفّز عمليّة التّعلّم عنده وينشّطها ويشجّعها ويدعمها. ولذا فمن المهم تثمين واحترام دور الوالدين وأفراد الأسرة الموسّعة في إثراء بيئة الطّفل/ة وتنمية هويّة الطّفل الثّقافيّة ولغته الأمّ، وقِيمه الخاصّة والّتي نعتبرها مهمّة لنموّه السّويّ والمتكامل.
ما زالت النّظرة إلى الطّفولة المبكرة في عالمنا العربي نظرة تنطلق من منظور تربويّ (تعليميّ). وهذه النّظرة تفرض تعاملاً أحاديّ الجانب متمركزًا في التّربية، وعلى وجه التّحديد في الإطار التّربويّ الرّسميّ. نشهد في مجتمعنا في السّنوات الأخيرة، بدايات إيجابيّة للاهتمام في مجال التّربية في جيل الطّفولة المبكرة وازدياد الوعي بأهمّيّة مؤسّسات التّربية. ولكن ما تزال غالبية البرامج ذات توجّهًا تّعليميًّا، ملقِّنًا غير متلائم مع احتياجات ومميّزات نموّ الطّفل والطّفلة، على الرغم من ان مجموع ما تجمّع لدينا من معارف عن الطّفل وتعلمه، تشير إلى أهمّيّة تبنّي استراتيجيّات تعليميّة تسنح الفرصة لتعزيز تعلّم الطّفل. فالطّفل كيان واحد موّحد ونظرته شموليّة، فهو لا يميّز بين فروع المعرفة المختلفة، بلّ يتعلّم بشكل متكامل، كما وإنّه متعلّم بالفطرة، يتعلّم من تجاربه ومن معايشته للظّروف المختلفة الّتي تحيطه. وللبيئة والرّاشد دور أساس ليس في تعليمه، بلّ في تيسير وتسهيل تعلّمه.
نحن بحاجة إلى تعميق الفكر التّربويّ التّنمويّ المتلائم مع التّحدّيات الّتي يفرزها القرن الواحد والعشرون، فلا يمكننا الاستمرار باعتبار التّربية ترويضًا (كما يعتقد البعض الّذين يؤمنون أنّ في الإنسان نزعات سلبيّة يجب تنقيته منها. فللرّاشد، حسب هذا الفكر، السّلطة الكاملة في إعادة تنظيم سلوك الفرد دون الاعتراف بطبيعة المتعلّم وما تحمله من خصائص واحتياجات). أو تشكيلاً (يرى الإنسان خامة، يمكن تشكيلها من خلال التّحكم بالعوامل المحيطة به). بلّ إنّ التّحدّي هو برؤية التّربية كتنمية، إذ أنّ الإنسان (الطّفل/ة) مجهَّز بقدرات فطريّة وبإمكانات متعدّدة تتفتّح بفعل الطّبيعة وتتبلور بفعل تفاعله مع بيئته.
تيسير بلورة فكر تربويّ عربيّ (فلسطينيّ):
"الحضارة أرحام الفكر التّربويّ. والفكر التّربويّ هو أداة الحضارة ووسيلتها في تخليد ذاتها وضمان انسيابها وتناقلها عبر الأجيال. فبمحض أن تعي حضارة ما ذاتها، تحرص على حماية تلك الذّات"[2] .
وعينا لأهمّيّة التّربية في تطوير الذّات الحضاريّةوالبحث عن أنجع الوسائل لإحداث التّغيير الإجتماعيّ(التّنمية)،
الّذي يمكّننا من جعل رؤيتنا واقعًا معاشًا،يدفعنا للإسترشاد بهذه الرّؤية وبلورة الفكر التّربويّوالنّهج الّذي يسهم في
هذا التّغيير. يضيف رضا محمّدجواد "عندما تعي الحضارة ذاتها يتولّد التّفكير بالتّربية،ويولد معه القلق الخلاّق على
التماس خير الوسائلوأجداها في حفظ (تطوير)[3] الذّات الحضاريّة، أيّْ يبدأالتّفكير في التّربية".
وعليه فقد تولّدت الحاجة لدى مجموعة منالمتخصّصات والمتخصّصين العرب الّذين تجّمعوا فيفضاء ورشة الموارد
العربيّة إلى التّعمّق في الفكرالتّربويّ العالميّ والعربيّ والارتكاز على بعضالمساهمات المبكرة الّتي تبنّت أفكارًا وممارسات
تربويّة مشاركة والتّعامل النّقديّ مع موروثنا بكونه تجربة مدعّمةتعيد الثّقة بأنفسنا وبجذورنا وتؤسّس بالوقت نفسه للإنطلاق
لتوليد معارف جديدة.
وقامت ورشة الموارد العربية في تيسيير العمل من خلال :
توفير فسحة للتّعمّق في الفكر التّربويّ العربيّ بشكل تشاركي
تشجيع التّعلّم كنهج في المؤسّسات وفي المجتمع وبحثت عن تجارب رائدة في الحقل تمكن الأطفال والأهل وطاقم العاملين/ات مع الأطفال، لاستخدام قدراتهم وتوظيفها لخلق ظروف أفضل للأطفال.
تعزيز التّدريب التّشاركيّ الّذي يُبنى على خبرات النّاس المشاركين والمشاركات ويدعمهم في مسارات التّفكير الجمعيّ (حوار، تحليل، إستشفاف واستنتاج) وهي إحدى الإستراتيجيّات لتوليد المعرفة أو بلورتها.
تشجيع الكتابة والتّوثيق للخبرات المتميّزة الّتي تتبنّى النّهج الشّمولي التّكامليّ وتترجمها في الميدان.
فتح إمكانيّات للحوار التّربويّ من خلال الملتقيات، النّشرات،..
دعم تربويّين/ات في نشر وتعميم إصداراتهم/نّ.
من خلال نشرة الورشة او موارد اخرو صادرة عن الورشة
تعزيز مهارات التّفكير النّقديّ وتعزيز النّقد البنّاء وفتح المجالات للحوار وتبادل الأفكار.
وهكذا نتج عن هذا المسار التشاركيّ الجمعيّ والذيشارك به مجموعة من سبعة بلدان عربيّة، رؤية تربويّة
عربيّة للطّفولة المبكرة، تمثّلت ب "النّهج الشّموليّالتّكامليّ في رعاية وتنمية الطّفولة"[5]. وثّقتاه د.جاكلّينصفير وجوليا جاكلّيس[6] ضمن دليل تدريبيّ.
جاءت صفة "شمولي" الواردة في المصطلح إقرارًا بأهمّيّةالمبدأ الّذي يشير إلى أن الطّفل كائن واحد موحّد.
للطّفل حاجات متنوّعة ومهمّة بجوانبها كافّة، وهي تتداخل فيمابينها وتؤثّر على بعضها البعض. وأمّا صفة
"االتّكامليّ"الواردة في المصطلح فتشير إلى أهمّيّة أخذ حاجاتالطّفل بمجملها حتّى عندما نهتم~ بحاجة واحدة معيّنة لديه.
يبنى النّهج الشّموليّ االتّكامليّ على "إطار مبادئ خاصّة"برعاية وتنمية الطّفولة المبكرة[7] وهي تشكلّ إطارًايجمع ما بين النّظريّة النّمائيّة ومبادئ حقّوق الطّفل/ة.وتقسم الى ثلاث مبادئ[8] مؤسِّسة لهذا النّهج وهي:
الطّفل كيان واحد موحّد، مهمّ بكافّة جوانبه، حيث يتأثّر كلّ جانب بالجوانب الأخرى ويؤثّر فيها و نظرته شموليّة. وهو لا يميّز بين فروع المعرفة المختلفة، بلّ يتعلّم بشكل متكامل
الطفولة مرحلة عمريّة قائمة ومتكاملة في حدّ ذاتها ومن حقّ الطّفل وحاجته أن يحياها بكاملها.
يحدث النّموّ في "خطوات متسلسلة" تتخلّلها فترات تكون جاهزيّة الطّفل/ة للتّعلّم في أوجها.
وثلاثة مبادئ أساسيّة حول الطّفل/ة والبيئة بالإضافة إلى9 مبادىء حول الطّفل/ة والبرامج.
الطّفل/ة والبيئة:
1. تفاعل الطّفل مع الأشخاص (كبارًا وصغارًا) يحفِّز عمليّة التّعلّم عند الطّفل، ينشِّطها ويشجِّعها ويدعمها.
2. تربية الطّفل هي تفاعل ما بين الطّفل وبيئته،بما في ذلك وبشكلّ خاصّ النّاس الآخرين والمعرفة.
3. تنمية هويّة الطّفل الثّقافيّة، ولغة الأمّ وقيمه الخاصّة مهمّة لنموّه السّويّ والمتكامل.
الطّفل/ة والبرامج:
1. هنالك"حياة داخليّة" للطّفل تظهر وتزدهر في الظّروف المناسبة.
2. من المهمّ تثمين الفروق الفرديّة بين الأطفال والإحتفاء بها.
3. الإعتراف بأهمّيّة "الدّافعيّة الداخليّة" للطّفل والّتي تقوده إلى المبادرة للقيام بأنشطة يوجّهها بنفسه، وتشجيعها أمرّ مهمّ في تحقيق مختلف جوانب شخصيّته.
4. تنشئة الطّفل على "الضّبط الذّاتيّ" لضمان تأمين حريّته الشّخصيّة والتّصرّف بمسؤوليّة في السّياق الإجتماعي والثّقافيّ.
5. يحتاج الطّفل الّذي يعيش في ظروف صعبةإلى دعم نفسيّ ومجتمعيّ كافٍ، من أجل تطوير المهارات والقدرات الكامنة لديه والّتي تساعده على البقاء والتّغلّب على الصّعوبات والصّدمات.
6. تربية الطّفل تنطلق ممّا يقدر الطّفل على القيام به، وليس ممّا لا يقدر على القيام به.
7. نظرة الطّفل شموليّة، وهو لا يميِّز بين فروع المعرفة المختلفة، بل يتعلّم بشكل متكامل.
8. تقدير واحترام دور الوالدين و/أو، عند الحاجة، دورأعضاء الأسرة الموسّعة أو الجماعة الرّاعية أوالكافلة في منظور العرف المحلّيّ.
9. تطوير برامج وقائيّة وعلاجيّة لجميع الأطفال، وبالذّات للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصّة.
النّهج الشّموليّ االتّكامليّ هو نهج يتعامل مع الطّفل على أنّه كيان واحد وموحَّد، يتطوّر بشكل شموليّ تكامليّ، أيّ أنّ كلّ جانب من جوانب النّموّ يؤثّر على الجوانب الأخرى ويتأثر بها، وجميع جوانب النّموّ مهمّة بالقدر نفسه، ويجدر بنا الإهتمام بها وأخذها بعين الإعتبار جميعًا- إذ أنّها تتكامل فيما بينها.
ينظر النّهج الشّموليّ االتّكامليّ إلى الطّفل كفرد تتزايد قدراته باستمرار، وذلك إن وجد في بيئة بشريّة داعمة؛تحترم حقوقه وتوفر له الفرص للمشاركة، نهج بطبيعته دمجيّ يُطالبنا بالنّظر إلى كلّ الأطفال بدون تمييز.
يرى النّهج الشّموليّ االتّكامليّ أهمّيّة الإنطلاق من الطّفل (مركزيّة الطّفل) والإعتراف بل الإحتفاء بما يحضره الطّفل/ة من عوالم داخليّة، تجارب وميول ورغبات واهتمامات، مكونات هويّته/ا الثّقافيّة، وقيمه الخاصّة ويولي أهمية قصوى لدور البالغ/ة الوالدين و/أو، عند الحاجة، دور أعضاء الأسرة الموسّعة أو الجماعة الرّاعية أو الكافلة في منظور العرف المحلّيّ ويوفّر المعايير لنوعيّة التّفاعل بين الطّفل/ة والبالغ. ويدفعباتّجاه تأسيس نهج حقوقيّ في العمل في مجال الطّفولة المبكرة، ويدعم استخدام استراتيجيّات ملائمة في إطار التّقاليد الثّقافيّة المحلّيّة.
كما وأنّ الشّموليّة االتّكامليّة لا تقتصر فقط على الأطفال،بل نقصد بها كذلك أهمّيّة التّكامل فيما بين الّذين يعملون
ويعيشون مع الأطفال؛ من أهل، مربّيات، أقارب، مراكزومؤسّسات.... ونعني التّنسيق وتبادل المعلوماتوالتّفاعل
المشترك بين جميع المؤسّسات، والأطرافالّذين يتعاملون ويعيشون مع الطّفل/ة، في الحضانةوالرّوضة، ومراكز الأمومة والطّفولة، الخدماتالإجتماعيّة، الصّحّيّة، التّربويّة، الإعلاميّة.
[1] تنمية ورعاية الطّفولة المبكرة تُعنَى ليس فقط في التّربية أو أطر التّربية الرّسميّة وغير الرّسميّة، بلّ تتعدّاها لتشمل جميع المجالات والحقول المرتبطة بنموّ الطّفل/ة وتطوّره/ا والمؤثّرة به/ا كَ: رعاية الأمّ الحامل ومتابعة نموّ وتطوّر الجنين، الرّعاية الصّحّيّة الأوّليّة والوقائيّة، ثقافة الطّفل، الإعلام الموجّه للأطفال، تعلّم الأطفال،..
[2] رضا محمّد جواد: "العرب التّربية والحضارة: الإختيار الصّعب"، بيروت- مركز دراسات الوحدة العربيّة 1987.
[3] تطوير هي إضافة من الكاتبة- إذ باعتقادي أنّه لا يمكن الحفظ دون تطوير. والمميّز الأساسيّ للحضارة هو حركتها، تفاعلها مع الواقع المعاش، عكسه بها وأثراؤه من خلاله.
[4] ARC Report: Holistic/Integrated Approach to ECED. 1997
[5] للمزيد حول النّهج وحول الورشة، يمكنك مراجعة "الكبار والصّغار يتعلّمون"- إعداد جاكلّين صفير وجوليا جيلكس ، وإصدار ورشة الموارد العربيّة في قبرص-2001.
[6] شاركت كاتبة هذا التّقرير في المسار الجمعيّ منذ 1992 وعملت كمستشارةللكاتبات خلال مراحل الكتابة المختلفة.
[7] اعتمدت على المبادئ العشرة الّتي ذكرتها تينا بروس في كتابها "أسسالتّربية في الطّفولة المبكرة"، ترجمة سلامة ممدوحة محمّد- إصدار دار الشّروق.
[8]إضافة إلى هذه المبادئ جرى تطوير 11 مبدءًا آخر، تناولت كلّها أهمّيّة البيئة في نموّ وتطوّر الطّفل وفي تطوير برامج نوعيّة في رعاية وتنمية الطّفولة المبكرة. يمكن العودة إليها في دليل التّدريب: جاكلين صفير وجوليا جيكلس: الكبار والصّغار يتعلّمون: إصدار ورشة الموارد العربيّة 2002.