تنمية هوية الطفل الثقافية ولغته الأم وقيمه الخاصة،
أساسٌ هام لنموه السويّ والمتكامل
نبيلة اسبانيولي
أخصائية نفسية
مديرة مركز الطفولة
الناصرة
إن هوية الطفل تنمو نتيجة لتفاعله مع من حوله في البيت أولاً، ثم في الحضانة والروضة والمجتمع الأوسع. وهوية الطفل بل هوياته المختلفة تنمو وتتعمق خلال مسار تطوره. فهو يذوِّت خلال الطفولة قيماً، مفاهيم ومعتقدات مرتبطة بانتمائه الاجتماعي، القومي، الثقافي والإنساني، بالإضافة إلى مكانه في العالم. يتم ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق معايشة الطفل للأهل، للأطفال الآخرين وللـ "راشدين مهمّين" في حياته وتفاعلهم مع البيئة، فمن خلال أحاديثنا معه، فعالياتنا، نشاطاتنا، لغتنا، طرق العناية به وطرق التعامل مع من وما حولنا، فإننا نقدم له نماذج من هذه الوسائل، القيم، المناهج والمعتقدات. منها ما نقدِّم بوعي، والغالب منها نقدِّمه بشكل غير واعٍ وفطري.
يبني الطفل خلال مسار نموه رؤيته الذاتية بمركّباتها المختلفة، فهو يبني تصوره عن ذاته وقدراته الذاتية، عمّا يحب وعمّا يكره وعن ميوله ورغباته وعن انتمائه.
إن هوية الطفل أو هويات الطفل تتبلور بشكل تدريجي في مسار نموه هذا.
فالطفل الذي راقب والديه بتعاملهما مع زهور البرية أو نباتاتها ورافقهما إلى النـزهات في الجبل، لقطف الزعتر والشومر والبسباس، ولعب معهما في هذه النـزهات وتمتع بها، فإنه سينمو لديه في البداية وبشكل غير واعٍ ميل طبيعي لهذه النـزهات وما تحتويه، وسيحاول العودة إليها كلمّا سنحت له الفرصة.
هذه التجارب والتجارب الحياتية الأخرى تبلور مفهومه لذاته ولهويته، وتنمّي علاقاته الإيجابية مع بيئته وما تحويه من مواد وأشخاص.
من البديهي أن هوية الطفل أو هويات الطفل تتأثر بما نقدمه له، ولكن من المهم أن نتذكر دائماً أن الطفل هو متلقٍ، فعّال وليس كما يعتقد البعض بأنه سلبي. هنالك فكرة شائعة مردّها أن الطفل يولد صفحة بيضاء نستطيع نحن أن نسطّر عليها ما نشاء، لكن هذه الفكرة غير دقيقة. فكل طفل يولد مع عالم داخلي، وهذا العالم يؤثِّر على تفاعله مع من وما حوله. هذا العالم الداخلي من شأنه أن يتطور إذا وجد من وما يغذّيه، لذلك فإن الراشدين والأطفال من حول الطفل، والبيئة المادية والعاطفية التي ينمو بها تؤثر جميعاً عليه وعلى هوياته ومحتوياتها.
إن تنمية هويّة الطفل الثقافية تكتسب أهميتها من ارتباطها في الحياة اليومية للطفل، فهو يعيش في بيئة مليئة بالمثيرات الثقافية.. يسمع لغة ويرتبط بها أياً كانت هذه اللغة، ويحاول تقليدها.. ومن خلال تفاعله مع البيئة سيكتسب مهاراته الأولية للغة.. تعاملنا مع اللغة سينعكس على تجربة الطفل: فإن كانت اللغة فقيرة أو غنية، لغة عربية أو أجنبية أو لغة عربية مقطّعة بالعبرية أو الانجليزية، فإن الطفل سيحاكي ما يسمع ليس فقط من ناحية مهارة لغوية بل أيضاً من ناحية تعامل مع اللغة، فحميميتنا معها ستنعكس على الطفل. أما إن كانت الرسائل الموجّهة إلى اللغة هي دونيّة قاصرة عن التعبير عما يجول في خواطرنا فإنها ستنعكس على الطفل.
كما وأن اللغة وتعاملنا معها سيؤثر على العمليات الفكرية عند الطفل أي أنها ستؤثر على مبنى شخصيته وعلى قدرته على التعلّم مما حوله.
فاللغة التي توجّه الأسئلة للطفل، تحثه على التفكير. بينما اللغة التي تعطي الأجوبة جاهزة دائماً فإنها ستدفعه إلى التعلق بنا وبأجوبتنا تماماً كالطفل الذي إن أعطيناه الحرية للخربشة والرسم فإنه في مرحلة معينة وبوتيرته الخاصة سيرسم بيتاً أو حيواناً أو شجرة، بينما إذا أعقنا حريته وقلنا له بشكل مستمر بأن ذلك ليس هو الشكل الذي يرسم فيه البيت، فإننا نعيق رسم البيت كما يراه هو..
لذلك فإن أهمية لغة الأم هي أساسية لتنمية الثقة بالذات الثقافية تماماً كما من المهم تنمية الهوية الثقافية بتعويد الطفل على الموسيقى وعلى البيئة الغنية بنباتاتها وأشجارها وجيولوجيتها..
إن تنمية الهوية الثقافية للطفل هي أساس لتنمية قدرته على التعامل مع الثقافات الأخرى (المختلفة أو المشابهة لي) باحترام، فإن لم أكتسب الثقة بهويتي الذاتية لا أستطيع التعامل بشكل متساوٍ مع الآخر.
إذاً تنمية الهوية الثقافية للطفل هي أساس لتنمية قدرته على التعامل مع العالم المتغير، والتعلّم من التجارب البشرية والثقافات البشرية الواسعة.
إن تنمية الهوية الثقافية للطفل شأنها شأن الأساس الذي إن زدته أمكنك من بناء عمارة كبيرة وإن قلّلت منه قلَّلت من إمكانية البناء.. لذلك فإن تنمية هذه الهوية من شأنها تمكين الإنسان فيما بعد من التعامل النقدي مع موروثه الثقافي والموروث البشري لكي يستطيع أن يطوّر ذاته الثقافية المميزة المرتكزة على هوية ثقافية خاصة, تستمدّ جذورها منها دون إغلاق الذات أمامَ الهويات الثقافية الأخرى المغايرة، الغنية أيضاً والتي من الممكن الاستفادة منها.
إن تنمية الهوية الثقافية والتقدير لهذه الهوية تمكِّن الفرد من الانطلاق والطيران في فضاءات الثقافات البشرية الأخرى، أو الغوص فيها والاستفادة منها دون فقدان الهوية الذاتية المتميزة.
وهذا ما نسعى إليه في مركز الطفولة عندما نصرِّح بأن رغبتنا هي التعامل النقدي مع الموروث الثقافي الفلسطيني الغني جداً ومساهمته في الحضارة البشرية دون إغفال الثقافات الأخرى ومساهماتها في هذه الحضارة.